شريط اخباري

. تــعلن إدارة مجلة الليبية عن بدء تجميع المادة العلمية لسنة 204 فعلى السادة أعضاء هيئة التدريس الراغبين في نشر أبحاثهم الاسراع بالتواصل مع إدارة المجلة وتجهيز نسختين إحداها ورقية والأخرى إلكترونية موعد استلام الورقات البحثية من الساعة 12- 4 كل يوم عدا الجمعة والسبت. ● تم بحمد الله وتوفيقه في الأيام الماضية التوقيع علي اتفاقية تعاون في اللغة الانجليزية بين الجامعة الليبية للعلوم الإنسانية والتطبيقية و معهد غلوبال تيسول الكندي (Global Tesol College ) حول الموضوعات الاتية:- 1- دورات تعليم اللغة الانجليزية لسبعة مستويات .2- شهادة التيسول الدولية International Tesol ertificate تأهيل الطلبة لامتحانات (IELTS and TOEFL) تأهيل ورفع كفاءة مدرسي اللغة الانجليزية وتخريج مدرسين لغة انجليزية جدد بالاضافة الي مجموعة اخري متنوعة من برامج اللغة الانجليزية وبعض التخصصات الاخري. ● تعلن الجامعة الليبية للعلوم الإنسانية والتطبيقية المعتمدة ( مؤسسي وبرامجي )عن فتح باب التسجيل والقبول لفصل الربيع 204 وذلك في التخصصات التالية إدارة الأعمال، محاسبة، حاسب آلي، تمويل ومصارف، قانون، هندسة النفط، فعلى الطلبة الراغبين في الإلتحاق بالدراسة في الجامعة الحضور للجامعة مصحوبين بالمستندات التالية، شهادة ثانوية وما يعادلها، 8 صور، شهادة صحية، شهادة ميلاد، العنوان عين زارة بجانب جامعة طرابلس قاطع ب وذلك من الساعة 9 صباحا حتى الساعة 6 مساءاً ولأي استفسار نامل الاتصال على الارقام التالية 0922108002 ● 📱0925331414 ● تهنئ الجامعة الليبية للعلوم الإنسانية والتطبيقية جميع أعضاء هيئة التدريس والطلاب والموظفين والعاملين بحصولها علي الاعتماد البرامجي لقسمي إدارة الأعمال والمحاسبة والحاسوب وذلك بحصول الأقسام العلمية على الإعتماد المؤسسي والبرامجي. ● تم بحمد الله عقد اتفاقية تعاون بين الجامعة الليبية والأكاديمية العربية للعلوم والتكنولوجيا والنقل البحري وذلك في مجال، الدراسات العليا الني تمنحها الأكاديمية، مجال التدريب، مجال إيفاد الخبراء، الاستشارات والبحوث المشتركة

الحد من إفلات الجناة في جرائم الفساد

الحد من إفلات الجناة في جرائم الفساد

 

أ. هناء أبوالعيد أبوزعينين

عضو هيئة التدريس

كلية القانون/ جامعة طرابلس

 

المقدمة :

شهد العالم في السنوات الأخيرة تصاعداً كبيراً وتطوراً  في جرائم الفساد، الأمر الذي أثّر بشكل سلبي على التنمية الاقتصادية، والتنمية البشرية، فالفساد يلتهم خيرات وثروات الشعوب، ويعيق تقدم الدول نحو الأفضل، كما يقف حائلاً دون جودة الحياة والخدمات التي يتلقاها المواطن، ويهدد أمن واستقرار الدول، لما يسببه من زعزعة في نظامها المالي، والقانوني.

إن الفساد بتسريبه أموال الدولة على نحو غير قانوني، يؤثر على الخدمات التي تقدم للمواطنين أصحاب الموارد البسيطة، كالصحة والتعليم وغيرها .... ، بل ويرتب عليهم تكاليف إضافية، ويسبب نقصاً في الاستثمار وتسريب للأموال، وعرقلة سير العجلة الاقتصادية.

ويمتاز مرتكبو جرائم الفساد بدرجة كبيرة من الاحترافية والدهاء، وسعيهم المستمر إلى إخفاء آثار جرائمهم، والاستفادة بقدر الإمكان من أية ثغرات موجودة ضمن القوانين والتشريعات الوطنية تمكنهم من الإفلات من الملاحقة القضائية والعقوبة.

الأمر الذي جعل الدولة الواحدة - مهما بلغت إمكانياتها -  و كانت قدراتها عالية، لا تستطيع منفردة مجابهة ومحاربة الفساد وملاحقة مرتكبي هذه الجرائم، خاصةً أنها من لجرائم التي تتميز - باعتبارها جرائم مالية - بصعوبة اكتشافها، وقدرة مرتكبيها في إخفائها باستخدامهم لأحدث الوسائل والطرق، والاستعانة بأشخاص عن طريق توظيفهم وشراء ذممهم لمساعدتهم في الاستفادة من الثغرات القانونية، وإفلاتهم من الملاحقة والعقاب، مما يستوجب وجود وتدعيم التعاون الدولي وتقديم المساعدة التقنية في منع الفساد ومكافحته، وقد تنادى لذلك فقهاء القانون الدولي.

من كل تلك الأسباب أصدرت الأمم المتحدة الصك الأول العالمي لمكافحة الفساد،(اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد)، والتي تهدف إلى ترويج وتعزيز التدابير الرامية إلى منع الفساد ومكافحته بمزيد من الكفاءة والفعالية، وترويج وتدعيم التعاون الدولي والمساعدة التقنية، فنصت في موادها على جملة من الوسائل التي تساعد الدول على ملاحقة الجناة، وعدم إفلاتهم، والتي يستوجب أن تنص عليها تشريعات الدول ضمن قوانينها وتشريعاتها الوطنية.

وتعتبر هذه التدابير والوسائل الحد الأدنى الذي يجب على الدول الأخذ به، مع العلم بأنه ليس هناك ما يمنع من إضافة بعض الوسائل الأخرى لضمان نظام أكثر فاعلية لمواجهة جرائم الفساد.

كما تعتبر معايير الولاية القضائية من أهم الوسائل التي تساعد على الحد من إفلات الجناة، وذلك بسد الثغرات القانونية الموجودة في التشريع الوطني أمام الجناة، لا سيما أن بعض جرائم الفساد تتميز بأنها جرائم عابرة للحدود، ويصعب ملاحقة مرتكبيها خاصة قي الدول التي تخلو تشريعاتها من الأخذ بمعايير الولاية كافة، فيستغل فيها المتهمون هذا العجز التشريعي للإفلات من الملاحقة القضائية ولا يزال العقوبة مقررة بها.

وقد تنبهت اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد لهذا العجز التشريعي وفقاً لما ورد في نص المادة (42). وحيث أن جرائم الفساد تتميز بصعوبة اكتشافها، أصبح من اللازم إيجاد حلول للكشف عن هذه الجرائم، وفي هذا الصدد اتجهت الاتفاقية إلى تشجيع المتهمين على تقديم العون لكشف الجرائم مقابل تخفيف العقوبة بحقهم وفقاً لما ورد في نص المادة (37).

ويعد التقادم والحصانة من معوقات الملاحقة القضائية مما يتطلب تضييق نطاقهما وإعادة النظر في أحكامهما حتى يتسنى ملاحقة مرتكبي جرائم الفساد.

وقد عُنيت نصوص الاتفاقية بالحد من تأثير التقادم والحصانة، مما يتطلب إعادة النظر في موقف التشريعات الوطنية والتشريع الليبي رغبة في الحد من إفلات الجناة والتمكين من ملاحقتهم قضائياً وإنزال العقوبة المقررة بها.

ونظراً لأهمية اللجوء إلى هذه الوسائل للحد من إفلات الجناة في جرائم الفساد، تم اختيارها لتكون موضوعاً لورقتنا، والتي تتناول كيفية الحد من إفلات الجناة في جرائم الفساد، والتي ستحتوي على مطلبين :

الأول: يُعنى بتوسيع الولاية القضائية للقضاء الوطني.

الثاني: يُعنى بضبط القيود المعوقة للملاحقة القضائية.

تمهيد :

في ظل التطور المعرفي والمعلوماتي، الذي شهده العالم في السنوات الأخيرة، ومواكبة لهذا التطور، استطاع مرتكبي جرائم الفساد بمختلف أشكالها وأنواعها، الاستفادة من الثغرات القانونية الموجودة في التشريعات الوطنية الضابطة لمثل هذه الجرائم، وذلك من خلال توظيفهم لما يمكن أن نطلق عليه بـ "خبراء الجريمة"، لمساعدتهم على إخفاء آثار جرائمهم والتنصل منها وإفلاتهم من العقاب.

وقد تنادى فقهاء القانون على المستوى الدولي لمعالجة إشكالية هذه الجرائم كونها تعتبر جرائم عابرة للحدود، ويصعب ملاحقة مرتكبيها، والعمل على سد الثغرات الموجودة في بعض التشريعات الوطنية، التي تخلو من الأخذ بمعايير الولاية كافة، مما جعل بعض الدول ملاذاً آمناً لهؤلاء المجرمين.

ولهذه الأسباب نجد اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد، وسعت من خلال نصها على مجموعة من القواعد الموضوعية والإجرائية، التي تساعد على الحد من جرائم الفساد، وملاحقة مرتكبيها، والتي يجب على الدول الأخذ بها، وسنها ضمن قوانينها، مع الأخذ في الاعتبار عدم وجود ما يمنع من إضافة وسائل أخرى، متى استلزم الأمر ذلك، لضمان فاعلية أكبر في مكافحة مثل هذا النوع.

وسنكتفي بدراسة المواد(29،30،31،32،33،37،40،42) من اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد التي تضمنت الوسائل التي تساعد على الحد من إفلات الجناة في جرائم الفساد، ورفع القيود المعوقة للملاحقة القضائية بالمساعدة على كشف الجريمة، ونظر الدعوى.

وسنتناول ذلك في مطلبين اثنين وهما على النحو الآتي:

المطلب الأول: توسيع الولاية القضائية.

المطلب الثاني: ضبط القيود المعوقة للملاحقة القضائية.

المطلب الأول : توسيع الولاية القضائية : من المسلم به ومما لا شك فيه إن النشاط الإجرامي قد اكتسب طبيعة دولية، كما نشاهد الآن من خلال الجريمة المنظمة على المستوى الدولي، وعلى قدر عال من الاستعداد والتنظيم، وأن الإجرام أصبح عابر للحدود، مع استفادة بعض المجرمين من القصور الموجود في بعض التشريعات الوطنية، الأمر الذي يستلزم معه تكاثف الجهود الدولية، من خلال تنظيم نصوص القانون الجنائي الدولي، والاتفاقيات الدولية، ومن خلال العمل على التوسع في الأخذ بمعايير الولاية القضائية، ورفع القيود التي تحول دون ملاحقة المجرمين، وهذا ما نعالجه في هذا المطلب ضمن فرعين:

الفرع الأول: ماهية معايير الولاية القضائية.

الفرع الثاني: متطلبات توسيع الولاية القضائية.

الفرع الأول: معايير الولاية القضائية : تعتبر معايير الولاية القضائية من أهم الركائز التي تكبح جرائم الفساد، والحد من إفلات الجناة من الملاحقة القضائية، وذلك من خلال سد الثغرات القائمة في التشريعات الوطنية، حيث تنبهت اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد لهذا العجز التشريعي في التشريعات الجنائية، بنصها في المادة "42" منها على ضرورة الأخذ بمعايير الولاية القضائية المختلفة والتي تتمثل في مجموعة المبادئ الآتية:

أولاً: مبدأ الإقليمية : يعني مبدأ الإقليمية أن قانون العقوبات ينطبق على كافة الجرائم التي ترتكب على إقليم الدولة سواء أكان الجاني أو المجني عليه فيها وطنياً أو أجنبياً، وسواء أكانت هددت مصالح الدولة صاحبة السيادة على الإقليم أو هددت مصالح دولة أجنبية (خطوة، 2007)، سواء كانوا جناة أو مجني عليهم في الجرائم المرتكبة داخل إقليم معين، وهذا يعني بمفهوم المخالفة عدم تطبيق القانون خارج نطاق هذا الإقليم مهما كانت جنسية الجاني أو المجني عليه (الرازقي، 1999). وبالتالي أي تطبيق لتشريعات دولة أخرى على ما يقع داخل إقليم الدولة يعد اعتداء على سيادتها(رحومه، 2004).

وأساس مبدأ الإقليمية هو سيادة الدول على إقليمها، ويتوجب على كل الدول احترام هذه السيادة وصونها، وأي تطبيق لتشريعات دولة أخرى على إقليم الدولة يعد اعتداء على سيادة الدولة، وهو ما نصت عليه الفقرة الأولى من المادة "42" من اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد بقولها: (تعتمد كل دولة طرف ما قد يلزم من تدابير لكي تخضع لولايتها القضائية ما جرمته من أفعال وفقاَ لهذه الإتفاقية في الحالتين التاليتين:

أ / عندما يرتكب الجرم في إقليم تلك الدولة الطرف.

ب / عندما يرتكب الجرم على سفينة ترفع علم الدولة الطرف أو طائرة مسجلة بمقتضى قوانين تلك الدولة الطرف....).

أما بالنسبة للمشرع الليبي، فقد نص قانون العقوبات بموجب المادة "4"على أنه:" تسري أحكام هذا القانون على كل ليبي أو أجنبي يرتكب في الأراضي الليبية جريمة من الجرائم المنصوص عليها فيه، ويعد في حكم الأراضي الليبية الطائرات والسفن الليبية حيثما وجدت إذا لم تكن خاضعة لقانون أجنبي حسب القانون الدولي".

والفقرة الأولى من المادة "5" نصت على أنه: "تسري أحكام هذا القانون أيضاً على الأشخاص الأتي ذكرهم:".. كل من ارتكب خارج البلاد فعلاً يجعله فاعلاً لجريمة وقعت كلها أو بعضها في ليبيا أو شريكاً فيها".

ثانياً: مبدأ الشخصية : ويقصد به أن يكون القانون مرتبطاً أكثر بالأشخاص، ويتبعهم قانونهم حيث يكونون، وهؤلاء الأشخاص إما أن يكونوا جناة أو مجنياً عليهم، وعليه فهناك الشخصية الإيجابية والشخصية السلبية للقانون.

ويقصد بالشخصية الايجابية انعقاد الاختصاص لقانون الجاني أينما حل: كل شخص يحاكم وفقاً لقانونه الأصلي على أساس أن هذا القانون سيكون أكثر انسجاماً مع شخصية الجاني، ثم أن القاضي يكون أكثر حياداً من القاضي الأجنبي (الرازقي، 1999)، أما بالشخصية السلبية فتعني انعقاد الاختصاص لقانون المجني عليه في الجرائم التي ترتكب ضده (بارة، 2013).

وقضت اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد بتطبيق هذا المبدأ على الجرائم التي يرتكبها كل من يحمل جنسية الدولة دون النظر إلى مكان ارتكاب الجريمة بشقيه السلبي والايجابي، وهذا ما نصت عليه في الفقرة (2/أ، ب) من المادة "42"، حيث أخذت بالشخصية الايجابية في الفقرة (2/أ).

والتي تنص على أنه: "رهناً بأحكام المادة "4" من هذه الاتفاقية ((صون السيادة)) يجوز للدولة الطرف أن تخضع أيضاً أي مجرم من هذا القبيل لولايتها القضائية في الأحوال التالية:

1-  عندما يرتكب الجرم ضد أحد مواطني تلك الدولة..، وأخذت بالشخصية السلبية في الفقرة (2/ب).

2- عندما يرتكب الجرم أحد مواطني تلك الدولة الطرف أو شخص عديم الجنسية يوجد مكان إقامته المعتاد في إقليمها.(الدليل، 2013).

أما القانون الليبي فقد جاء في المادة "4" على أنه " تسري أحكام هذا القانون على كل ليبي أو أجنبي يرتكب في الأراضي الليبية جريمة من الجرائم المنصوص عليها فيه،...."، يتبين في هذه المادة أن المشرع يعتمد إقليمية القانون الجنائي كمبدأ، ولكن ذلك لا يمنع من ورود بعض الاستثناءات عليه، فهو يأخذ بالشخصية السلبية المادة "5 الفقرة _ ثانياً".(الرازقي، 1999).

ثالثاً: مبدأ العينية: يقضي بتطبيق القانون الجنائي على أفعال ترى الدولة أنها تعرض أمنها للخطر أو تهدد مصالحها، حتى وإن وقعت هذه الأفعال خارج إقليمها ومن أشخاص لا يحملون جنسيتها وترد علة هذا المبدأ إلى أن هذه الجرائم لو ارتكبت خارج إقليم الدولة فليس من المؤكد أن تهتم الدولة التي ارتكبت الجرائم على إقليمها بملاحقة المتهم ومحاكمته عن تلك الجرائم (خطوة، 2007).

وهذا ما نصت عليه الاتفاقية في المادة "42" فقرة (2/د) على أنه: " عندما يرتكب الجرم ضد الدولة الطرف.....

أما المشرع الليبي فقد أخذ بمبدأ العينية عندما تهدد الجريمة أمن الدولة ومصلحتها، وحددت المادة "5/ثانياً"هذه الجرائم في الأتي:

أ-جناية مخلة بأمن الدولة ، ومما نص عليه في البابين الأول والثاني.

ب-جناية تزوير، مما نص عليه في المادتين (334 و 335) من هذا القانون.

ج-جناية تزييف نقود متداولة قانوناً في ليبيا.

د-جناية الرق ما نص عليه في المادة (427) من هذا القانون.

وبالنظر إلى ما جاء في اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد، وما جاء في نصوص ق.ع.ل.

نجد أن الاتفاقية كانت أكثر شمولاً وتوسعاً من حيث نطاق تطبيق مبدأ العينية، حيث أقرت باختصاص القضاء الوطني بمعاقبة من يرتكب جريمة فساد خارج إقليم الدولة.

أما القانون الليبي فشابه قصور ولم يدرج جرائم الفساد ضمن الجرائم المنصوص عليها في المادة "5" من قانون العقوبات التي سبق الإشارة إليها.

الفرع الثاني: متطلبات توسيع الولاية القضائية : إن ما يشهده العالم من تفشي وازدياد في جرائم الفساد من جهة، وتطور كبير في ارتكاب هذه الجرائم، ودهاء المجرمين، وسهولة إفلاتهم من العقوبة، والاستفادة من الثغرات القانونية من جهة أخرى، تحتم على المجتمع الدولي ضرورة التعاون القضائي الجدي بين الدول، خاصة مع القصور الذي نلاحظه في بعض التشريعات، التي تعتمد في قانونها الجنائي على الأخذ بمعيار واحد فقط دون باقي المعايير، مما يسبب في وجود ثغرات قانونية تساعد على إفلات الجناة، وهذا ما تنبهت له اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد، وذلك بأخذها بمعايير الولاية القضائية المختلفة كافة.

أولاً: مواطن القصور في الأخذ  بمعيار واحد :

إقليمية القانون: من المبررات التي يدعم بها الفقهاء موقفهم في الأخذ بهذا المبدأ، هو أن القانون الجنائي  يعتبر مظهراً  من مظاهر سيادة الدولة على إقليمها، وهي فقط التي ينبغي لها الحق في تجريم ما تشاء من أفعال وتوقيع ما تشاء من عقوبات على إقليمها، ولا يجوز لدولة أخرى ممارسة هذا الحق، أما الجرائم المرتكبة في الخارج فلا تمس سيادة الدولة (الرازقي، 1999)، كما أن محاكمة الجاني في مكان وقوع الجريمة ييسر البحث عن أدلة إثبات الجريمة ويسهل إجراءات التحقيق فيها، كما يفترض علم الجاني بقانون الدولة التي ارتكب فيها جريمته، ويؤكد معنى العقوبة في الردع العام (حسني، 1983).

رغم وجاهة هذه المبررات إلا أن التطبيق العملي والحرفي لهذا المبدأ ساهم بشكل كبير في إفلات الكثير من الجناة من العقوبة، خاصةً في الحالات التي يصعب فيها تحديد أماكن ارتكاب الجريمة، أو كان مجهولاً، الأمر الذي قد ينجم عنه عدم اختصاص دولة معينة بالعقاب، كذلك  بعض الحالات التي تحكمها القواعد العامة المعترف بها دولياً، التي لا يسمح فيها بتسليم الرعايا الوطنيين لدولة أخرى لمحاكمتهم... ولكي نستطيع أن نتفادى هذه الثغرات في العقاب لجأت بعض التشريعات إلى الأخذ بمبدأ الشخصية.

شخصية القانون: إن القول بأن القانون الجنائي هو الوحيد القادر على حماية المصالح العامة والخاصة، يتبعه بداهةً التفكير بأن التشريع الوطني هو من يتصور طبيعة هذه الحماية وكيفيتها، ولهذا أطلق الفقهاء على هذا المبدأ مبدأ الحماية، بمعنى أن القانون الجنائي ينبغي أن يتبع بحمايته مواطني الدولة من أي اعتداء يقع عليهم خارج وطنهم.

ولكن هذا التصور منتقد من حيث أن القاضي الوطني يمكن أن يكون، رغماً عنه بعيداً عن الحياد فلابد أن يميل إلى جانب المجني عليه على حساب مصلحة الجاني، فضلاً عن أن تطبيق القانون الجنائي للبلد الذي وقعت فيه الجريمة يكون أكثر عدالة بسبب سهولة الإثبات (الرازقي، 1999).

رغم ذلك نجد كثيراً من التشريعات أخذت بشيء من الشخصية الإيجابية كما في حالة ارتكاب الوطني جريمة في الخارج ولجوئه إلى بلاده قبل القبض عليه، أو السلبية حينما تكون الدولة هي المجني عليها في الجريمة.

مبدأ العينية: أخذت به بعض التشريعات حمايةً لها من الجرائم التي تتعلق أو تمس مصالح مرموقة الأهمية للدولة، ككيان الدولة أو سلامتها الإقليمية أو السياسية أو الاقتصادية، أو تعرض أمنها للخطر، أو تهدد مصالحها(موسى، 2002).

دون النظر إلى باقي الجرائم، كجرائم الفساد التي تهدد أمن ومصالح المجتمع الدولي كافة، وهذا يمثل قصوراً كبيراً لدى بعض التشريعات، والتي من ضمنها التشريع الليبي، كما سبق وأشرنا إليه أنه أخرج جرائم الفساد من قوائم الجرائم المنصوص عليها في المادة "5" من ق.ع.ل.

الأمر الذي يدعو ويتطلب معه العمل على توسيع الولاية القضائية، ورفع القيود التي تشكل عائقاّ أمام ملاحقة الجناة ومعاقبتهم على جرائمهم.

ثانياً: تبني عالمية القانون الجنائي:

يعمل مرتكبو جرائم الفساد على الاستفادة من الثغرات القانونية الموجودة في التشريعات الوطنية، للتمكن من الإفلات من الملاحقة والعقاب، الأمر الذي يدعو المجتمع الدولي من خلال التشريعات الوطنية للدول، إلى ضرورة التعاون، وإيجاد إجراءات ووسائل أخرى للحد من إفلات الجناة في جرائم الفساد، والأخذ بمعايير الولاية القضائية، وهذا ما جاءت به اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد، وتناولته في بنودها، حيث تضمنت جملة من القواعد الموضوعية والإجرائية، التي من شأنها المساعدة على الحد من إفلات هؤلاء الجناة، وذلك ضمن نصوص المواد (29،30،37،42،...وغيرها)، حيث تعتبر هذه القواعد بمثابة الحد الأدنى من الوسائل التي يجب على الدول الأخذ بها لتحقيق النظام القضائي الأكثر فاعلية في مواجهة جرائم الفساد،والتي تتميز بأنها جرائم عابرة للحدود، ويصعب ملاحقة مرتكبيها، خاصةً في ظل القصور التشريعي لدى بعض الدول، والتي تخلو تشريعاتها من الأخذ بمعايير الولاية القضائية كافة.

من هنا جاءت ضرورة تبني مبدأ "عالمية القانون الجنائي"، ويقصد به وجوب تطبيقه على كل جريمة يقبض على مرتكبها في إقليم الدولة، بصرف النظر عن جنسيته أو جنسية المجني عليه أو مكان ارتكاب الجريمة (محمد، 1967).

ويقوم على أساس التعاون القضائي بين الدول المتمثل في إعطاء الاختصاص لتشريع البلد الذي يقبض فيه على الجاني دون الأخذ في الاعتبار جنسية الجاني أو المجني عليه أو مكان حدوث الجريمة، أو مدى مساسها بمصلحة الدولة من عدمها، طالما قبض عليه داخل إقليمها، فالعبرة بمكان القبض على الجاني.

وقد أخذت اتفاقية الأمم المتحدة بمبدأ عالمية القانون الجنائي، وحصرته في حالتين:

الحالة الأولى: عندما يكون الجاني عديم الجنسية ويوجد مكان إقامته المعتاد في إقليم الدولة حسب ما جاء في المادة "42" فقرة (2/ب).

الحالة الثانية: إذا كان الجاني المزعوم موجود في إقليم دولة ولم تقم بتسليمه لكونه أحد مواطنيها، أو لم تقم بتسليمه لأي سبب أخر، حسب المادة "42" فقرة (3،4).

ومن التشريعات التي أخذت بعالمية القانون الجنائي، قانون العقوبات الإيطالي 1930م، وقانون العقوبات اليوناني 1950م، وقانون العقوبات الأثيوبي 1957م، كذلك هناك تشريعات عربية تطابقت مع اتفاقية الأمم المتحدة، مثل التشريع اللبناني الذي أخذ بمعايير الولاية القضائية الأربعة في المواد (15،19،20،21،23)، من قانون العقوبات، والتشريع الإماراتي في المواد (16،20،21،22) من قانون العقوبات الاتحادي.

أما المشرع الليبي، ومن خلال مطالعة قانون العقوبات الليبي، نجده قد توافق جزئياً مع الاتفاقية حيث أخذ بمعايير الولاية القضائية الثلاثة (الإقليمية – والشخصية السلبية – العينية)،وخلت نصوصه من الأخذ بمبدأ الشخصية الايجابية ومبدأ العالمية، وهو ما يعد قصوراً في أساليب مكافحة جرائم الفساد، حيث أنه أهمل وبدون قصد الأخذ بمبدأ الشخصية الايجابية، ومدى الأثر الذي يمكن أن يحدثه الأخذ بهذا المبدأ، كما أنه أدرج جرائم محددة بعينها عندما أخذ بمبدأ العينية، دون تنقيح أو مواكبة للمستجدات عندما لم يدرج جرائم الفساد ضمن الجرائم التي تهدد أمن الدولة ومصلحتها، فلا يوجد نص يسمح بتطبيق مبدأ عالمية قانون العقوبات، ومن ثم كان تطبيق هذا المبدأ متعذراً، وذلك رغم وجود حالات استثنائية يمكن أن تسري فيها أحكام القانون الليبي على جرائم وقعت تأسيساً على مبدأ عالمية قانون العقوبات، من ذلك مثلاً جرائم القرصنة والاتجار بالرقيق (موسى، 2002).

المطلب الثاني: ضبط القيود المعوقة للملاحقة القضائية :

تعتبر جرائم الفساد كونها من الجرائم العابرة للحدود، من الجرائم المالية المعقدة، وذلك راجع لارتكابها من قبل جناة محترفين، يستخدمون أحدث وأدهى الوسائل المتطورة التي تساعدهم في الإفلات من الملاحقة والعقوبة، والاستفادة من القصور التشريعي والثغرات القانونية، الأمر الذي استلزم ضرورة العمل على ضبط القيود المعوقة للملاحقة القضائية، وإيجاد وسائل وحلول تساعد على الكشف على هذه الجرائم، والحد من إفلات مرتكبيها، وهذا ما سنتناوله في الفرعين الآتيين:

الفرع الأول: كشف وتقصي جرائم الفساد.

الفرع الثاني: نظر دعاوى جرائم الفساد.

الفرع الأول: كشف وتقصي جرائم الفساد : يتطلب الكشف عن جرائم الفساد تعاون كبير بين الأشخاص والسلطات المختصة بإنفاذ القانون، وهنا تظهر أهمية دور الشهود والمبلغين، فمعظم جرائم الفساد التي تم الكشف عنها كانت نتيجة لبلاغات تقدم بها مبلغون عايشوا هذه الممارسات الفاسدة.

كذلك التعاون بين الأشخاص الاعتباريين وسلطات إنفاذ القانون، وذلك من خلال تذليل الصعاب والعقبات التي قد تنشأ عن تطبيق قوانين السرية المصرفية، عند تقديم معلومات تتعلق بجرائم الفساد، وتخفيض عقوبة المتهم الذي يقدم العون والمساعدة في تقديم معلومات مفيدة في التحقيق والإثبات.

أولاً : تشجيع الإبلاغ عن طريق حماية الشهود والمبلغين :

إن معظم جرائم الفساد التي يتم إثباتها أمام السلطة القضائية يتم من خلال الشهود والمبلغين، باعتبارهم من أهم أدلة الاثبات في المجال الجنائي، وبالنظر للدور المؤثر والفعال للشهود والمبلغين في كشف الجريمة والتعرف على مرتكبيها، وما قد تعرضه لهم تلك الشهادة التي يدلون بها لمخاطر وتهديدات قد تلحق بهم، الأمر الذي قد يحجمهم عن التقدم للإدلاء بهذه الشهادة، فإن الأمر يتطلب معه وضع تدابير مناسبة لتشجيعهم على الإبلاغ، ومنحهم الشعور بأنهم في منأى عن تعرضهم وأسرهم لأي مخاطر تلحق بهم. من خلال وضع ما يلزم من ضمانات توفر لهم الحماية من أي فعل ترهيب أو انتقام قد يتعرضون له، وكذلك توفير تدابير لحمايتهم، لذا تبنت معظم دول العالم في إطار جهودها الرامية إلى محاربة الفساد وضع آليات فعالة لحماية هذه الفئات (الإجتماعي، 2014).

من هنا أولت الاتفاقية عناية خاصة بهم، وأفردت لهم المادتين "32-33"من اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد، باعتبار أن معظم جرائم الفساد التي يتم إثباتها أمام السلطة القضائية يتم من خلال الشهود والخبراء، باعتبارهم من أهم أدلة الاثبات في المجال الجنائي، لذا تبنت معظم دول العالم في إطار جهودها الرامية لمكافحة الفساد وضع آليات فعالة لحماية هذه الفئات.

عليه فإن توفير الحماية اللازمة لهذه الفئات كان من أهم السياسات التي أهتم بها واضعو الاتفاقية في مجال الوقاية من الفساد، وهذا ما أشارت إليه المادة "32-1" من اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد، إذ نصت على : " تتخذ كل دولة طرف تدابير مناسبة وفقا لنظامها القانوني الداخلي، وضمن حدود إمكانياتها، لتوفير حماية فعالة للشهود الذين يدلون بشهادة تتعلق بأفعال مجرمة وفقا لهذه الاتفاقية، وكذلك لأقاربهم وسائر الأشخاص وثيقي الصلة بهم عند الاقتضاء، من أي انتقام أو ترهيب محتمل".

 

ويلاحظ هنا الطابع النسبي لهذه الحماية، وهو ما يفرضه أمران :

  • حداثة مفهوم حماية الشهود مقارنة مع المفاهيم القانونية الأخرى.
  • ما قد تتطلبه برامج حماية الشهود من مبالغ وموارد وإمكانيات مالية.

وبالتالي فإننا نلاحظ أن الاتفاقية أخذت في الاعتبار بعاملين:

- العامل الأول "نظري"، وهو اتخاذ كل دولة تدابير حماية الشهود والخبراء في ظل نظامها القانوني الداخلي.

- العامل الثاني "عملي"، وهو مراعاة الإمكانيات المالية لكل دولة عند تقرير برامج حماية الشهود - الخبراء والضحايا (دبارة، 2006).

من كل ذلك تلزم الدول بما يلي:

أ / توفير حماية فعالة للشهود والخبراء في حدود الإمكانيات المتاحة، ويتضمن ذلك :

  • الحماية الجسدية.
  • النقل إلى مكان آخر داخل البلاد أو خارجه.
  • السماح بعدم كشف هوية الشهود وأماكن وجودهم.

ب / ترتيبات خاصة لإعطاء الأدلة.

ج / وضع إجراءات مناسبة توفر لضحايا الجرائم سبل الحصول على تعويض وجبر الأضرار.

د / إتاحة الفرص للضحايا لعرض أرائهم وشواغلهم في المرحلة المناسبة في الإجراءات الجنائية.

ه / النظر في إبرام اتفاقات مع دول أخرى، بشأن تغيير أماكن الإقامة.

و / النظر في تدابير حماية الأشخاص الذين يبلغون السلطات المختصة (الجريمة، 2012).

كما أولت الاتفاقية اهتماما خاصا لحماية المبلغين، وقد نصت على ذلك في المادة "33":(تنظر كل دولة طرف في أن تدخل في صلب نظامها القانوني الداخلي، تدابير مناسبة لتوفير حماية من أي معاملة لا مسوغ لها لأي شخص يقوم بحسن نية ولأسباب وجيهة بإبلاغ السلطات المختصة بأي وقائع تتعلق بأفعال مجرمة وفقا لهذه الاتفاقية).

ولهذا تحرص التشريعات المعاصرة على الاهتمام بـــــمسألة حماية الشهود والمبلغين، باعتبارها كفالة لحقـــــــوق الإنسان، وتعزيز لنظام العدالة الجنائية.

وهذا ما يجب أن يعمل عليه مشرعنا الليبي من إعادة النظر في هذه المسألة، والعمل على إيجاد تدابير ونظام فعال لحماية الشهود والمبلغين، لما لهم من أهمية ودور فعال في الكشف عن وقائع الفساد وملاحقة مرتكبيها.

 

 

ثانياً: السرية المصرفية : تعد السرية المصرفية أحد أهم مبادئ العمل المصرفي، التي لا يجوز بـــموجبها للمؤسسات المصرفية إفشاء معلومات تتعلق بحساب مصرفي لأحد عملائها، فحماية المعلومات المصرفية من التقاليد العريقة في الدوائر المصرفية.

فعلى مستوى الفرد تعتبر هذه السرية جزءاً من الحق في الخصوصية "خصوصية البيانات"، بل أن في بعض الولايات القضائية تساوي السرية المصرفية حماية الأمن الشخصي لمنع الابتزاز والاختطاف، أما على مستوى الشركات فهي تمنع من إساءة استخدام قوانين مكافحة المنافسة غير العادلة، أو الاحتكار، وعلى صعيد السياسة العامة يستند النظام المصرفي السليم إلى مبدأ الثقة، التي تتحقق عن طريق التكتم في إدارة العلاقات (الدليل، 2013).

وكثيراً ما كانت قواعد السرية المصرفية عقبة رئيسية أمام إجراءات التحقيق والملاحقة القضائية، الأمر الذي استلزم الخروج على مبدأ السرية المصرفية في الجرائم الخطيرة ذات الجوانب المالية ، أو التي تتعلق بجرائم الفساد.

وفي ظل تواصل جميع الدول وبدرجات متفاوتة وبموجب تشريعاتها، من دعم سلطة المصارف والتزامها برفضها الكشف عن معلومات عملائها، واشتراط الموافقة القانونية المطلوبة للسماح للسلطات العامة وفي حدود معينة بالاطلاع على هذه المعلومات، نجدها تختلف فيما يتعلق بالحماية التي توفرها قوانين السرية المصرفية، ففي معظم الدول تشكل السرية المصرفية جانباً مهماً من العلاقة التعاقدية بين المصرف والعميل، وبالتالي يتم التعامل معها كمسألة من مسائل القانون الخاص، وخرقاً للعقود،وفي دول أخرى تم ترقية حماية سرية المعلومات المصرفية، من مجرد علاقة تعاقدية، إلى مسألة تتعلق بالمصلحة العامة(الدليل، 2013)، وبصفة دائمة اعتبرت هذه الولاية القضائية خرق السرية المصرفية جريمة إفشاء السر المصرفي، وهي صورة من صور جريمة إفشاء السر المهني(دبارة، 2006).

وهذا ما تنبهت له اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد، فعملت على الخروج عن مبدأ السرية المصرفية ،حيث أجازت في المادة "31" فقرة "7" صراحةً الخروج عن هذا المبدأ، حيث جاء فيها"... تخويل المحاكم أو السلطات المختصة الأخرى صلاحية الأمر بتقديم السجلات المصرفية أو المالية أو التجارية أو بالتحفظ عليها "، كما تقتضي  المادة "40" من الاتفاقية، من الدول الأطراف العمل على تذليل العقبات التي قد تنشأ عن قوانين وأنظمة الحماية أمام التحقيقات الجنائية المحلية في الأفعال المجرمة بموجب الاتفاقية، وذلك بأن تكون لدى هذه الدول آليات مناسبة في نظامها القانوني لتذليل تلك العقبات التي قد تنشأ عن تطبيق قوانين السرية المصرفية.

وقد تم إقرار ذلك فعلا بموجب المتطلبات التي تنص عليها الاتفاقية فيما يتعلق بالإبلاغ عن المعاملات المشتبه فيها والتوصية بإنشاء وحدة التحقيقات المالية في جميع الدول الأطراف وفي نفس الوقت، فإن القدرة التكنولوجية للنظام المصرفي الدولي تجعله أكثر استعداداً للحركات المالية عبر الوطنية من استعداد الوكالات الوطنية للدول الأطراف لرصد هذه الحركات والتحقيق فيها،وترمي هذه المادة إلى تحقيق التوازن السليم بكفالة تعديل أحكام السرية المصرفية بحيث تسمح بتقديم معلومات لمختلف الأجهزة الوطنية المعنية بإنفاذ القانون من أجل مكافحة جرائم الفساد بفعالية وتمكينها من التصرف بسرعة لا تقل عن سرعة الجهات التي تقوم بالتحقيق فيها(الدليل، 2013).

أما المشرع الليبي فقد خرج عن مبدأ السرية المصرفية، في حالات معينة نص عليها في المادة(9)من قانون مكافحة غسل الأموال، والمادة (94،96) من قانون رقم(1) لسنة 1373و.ر 2005م بشأن المصارف، حيث نصت المادة (94) على أنه:(على المصارف الاحتفاظ بسرية حسابات زبائنها وأرصدتهم وكافة عملياتهم المصرفية، ولا يجوز أن تسمح بالاطلاع عليها أو كشف أو إعطاء بيانات عنها للغير إلا بإذن كتابي من صاحب الحساب أو من جهة قضائية مختصة)، وجاء في المادة (96) بأنه (..حق المصرف في الكشف عن كل أو بعض البيانات الخاصة بمعاملات الزبون اللازمة لإثبات حقه في نزاع قضائي ينشأ بينه وبين زبونه بشأن هذه المعاملات).

ثالثا: تخفيف عقوبة المبلغ عن جريمة فساد: تتضمن اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد العديد من الأحكام،التي تهدف إلى تعزيز كشف الفساد والتحقيق فيه ومقاضاة مرتكبيه، وبما أن جرائم الفساد تتصف بكونها من الجرائم المعتمة التي تمارس في السر، فإن أفضل طريقة للكشف عنها،هو الحصول على المعلومات من مشارك أو شاهد في جريمة الفساد.

الأمر الذي يتطلب معه إيجاد وسائل لتحفيز المشاركين على إفشاء ما لديهم من معلومات ستبقى لو لا ذلك طي الكتمان، ولذا تقرر الاتفاقية أن تحفيز هذا التعاون من قبل هؤلاء له ثمن في بعض الأحيان، مثل تخفيض العقوبة أو منح الحصانة من الملاحقة القضائية، وهذا ما جاءت به المادة "37" من الاتفاقية بنصها على أنه:

  • تتخذ كل دولة طرف تدابير مناسبة لتشجيع الأشخاص الذين يشاركون أو شاركوا في ارتكاب فعل مجرم وفقاً لهذه الاتفاقية على تقديم معلومات مفيدة إلى السلطات المختصة لأغراض التحقيق والإثبات، وعلى توفير مساعدة فعلية محددة للسلطات المختصة يمكن أن تسهم في حرمان الجناة من عائدات الجريمة واسترداد تلك العائدات.
  • تنظر كل دولة طرف في أن تتيح في الحالات المناسبة إمكانية تخفيف عقوبة المتهم الذي يقدم عوناً كبيراً في عمليات التحقيق أو الملاحقة بشأن فعل مجرم وفقاً لهذه الاتفاقية.
  • تنظر كل دولة طرف في إمكانية منح الحصانة من الملاحقة القضائية وفقا للمبادئ الأساسية لقانونها الداخلي لأي شخص يقدم عوناً كبيراً في عمليات التحقيق أو الملاحقة بشأن فعل مجرم وفقاً لهذه الاتفاقية.
  • تجري حماية أولئك الأشخاص على النحو المنصوص عليه في المادة "32" من هذه الاتفاقية مع مراعاة ما يقتضيه اختلاف الحال.
  • عندما يكون الشخص المشار إليه في الفقرة "1" من هذه المادة الموجود في دولة طرف قادراً على تقديم عون كبير إلى السلطات المختصة لدولة طرف أخرى، يجوز للدولتين الطرفين المعنيتين أن تنظرا في إبرام اتفاقات أو ترتيبات وفقاً لقانونهما الداخلي، بشأن إمكان قيام الدولة الطرف الأخرى بتوفير المعاملة المبينة في الفقرتين "2-3" من هذه المادة (الدليل، 2013).

يتبين لنا وباستقراء هذه المادة، أن الاتفاقية قد دعت الدول إلى تبني تدابير وصور للمعاملة العقابية المخففة من خلال تشريعاتها، للمساعدة في كشف أي جريمة فساد، والعمل على ملاحقة مرتكبيها، متمثلة في الأتي:

أولاً: المعلومات ذات الصلة : يجب أن تكون المعلومات التي يقدمها الشخص مفيدة وذات صلة بالتحقيق في القضية أو الملاحظة القضائية أو المقاضاة بشأنها، أو استرداد العائدات المتأتية من الفساد، حسب الاقتضاء.

وبالتالي ينبغي على الدول إقرار تدابير مناسبة، من أجل التشجيع على تقديم مساعدة فعلية محددة يمكن أن تسهم في حرمان الجناة من عائدات الجريمة، واسترداد تلك العائدات، وقد ترى الدول الأعضاء أن من المهم إعلان تلك التدابير وإدراجها في برامج توعية الشهود سعياً إلى كسب دعم الجمهور.

ثانياً: إمكانية تخفيف عقوبة المتهم الذي يقدم عوناً (الفقرة 2) : قد تعمد الدول الأعضاء إلى "تخفيض العقوبة" بإتاحة إمكانية فرض حكم مخفف أو تنفيذ عقوبة بطريقة أكثر ليونة، وبناءً على ذلك، للدول الأطراف أن تعتبر أن تخفيض العقوبة يتضمن نموذجين ألا وهما:

الأول: أن تفرض المحكمة أو القاضي حكماَ مخففاً بالمقارنة مع الحكم الذي كان سيفرض، فيجوز للمحكمة أو القاضي أن ينظر في إمكانية فرض حكم بديل عن السجن بفرض عقوبة مالية مثلاً.

الثاني: وهو التخفيض الواقعي للعقوبة، بعد صدور الحكم أو أثناء إنفاذه، مثل الإفراج المبكر أو الإفراج المشروط المادة "30/5".

ثالثاً: إمكانية منح الحصانة من الملاحقة القضائية لأي شخص يقدم عوناً (الفقرة3):

وقد اقترحت المادة "37 " نموذجين يمكن إتباعهما في هذا الشأن :

أولاً: قد تعتمد الدول الأعضاء تشريعات جديدة تجيز منح الحصانات، وقد يعتبر ذلك ضرورياً في النظم القانونية التي تكون فيها الملاحقة القضائية إلزامية.

 ثانياً: قد تخطر الدول الأطراف، التي يتمتع فيها المدعون العاملون بسلطة تقديرية بعدم الملاحقة، سلطاتها المعنية بإنفاذ القانون بأن القدر الهام من التعاون قد يكون سبباً يجيز منح الحصانة ضمن نطاق السلطة التقديرية للمدعي العام.

فالحصانة يمكن أن تكون بمثابة حافز قوي للشاهد الرئيسي للتعاون إذا لم يتسن تقديم القضية للمحاكمة دون مساعده منه، هذا من جهة، ومن جهة أخرى قد ينال الاستثناء التام من العقوبة من صلاحية معايير مكافحة الفساد، وذلك عندما تطبق على نحو متكرر،أو عندما يتكون لدى الجمهور انطباع بأن الحصانة تمنح للأشخاص ذوي النفوذ السياسي أو المالي، وقد ترى الدول الأطراف من الضروري تحقيق التوازن بين فائدة منح الحصانة لمعالجة حالات محددة وضرورة تعزيز ثقة الجمهور بعملية إقامة العدل، كما قد يتوقف منح الحصانة أو عدم منحها على طبيعة أو مدى التعاون فقط، قد تضع سلطات إنفاذ القانون في الاعتبار شخصية المتهم ومدى مشاركته في ارتكاب الجريمة.

أما ما يخص المشرع الليبي في هذا الصدد، فقد نص على أسباب تخفيف العقوبة، وذلك عند وجود ما يسمى بالأعذار القانونية المخففة أو الأعذار المعفية، وهي التي يقدرها المشرع، أو الظروف القضائية المخففة، التي تركها القانون لتقدير القاضي (موسى، 2002).

ولم ينص المشرع الليبي على تخفيف العقوبة بشأن المتهمين الذين يقدمون العون للسلطات صمن نص عام في قانون العقوبات، بل نص على الإعفاء من العقوبة في جرائم معينة، مثل ما نصت عليه المادة (24) من ق.ع.ل على أنه:"... يعفى الراشي أو الوسيط من العقوبة إذا أخبر السلطات بالجريمة قبل اتخاذ أي إجراء فيها".

كذلك ما نص عليه في المادة (6) من قانون رقم(2) بشأن مكافحة غسل الأموال، والتي جاء فيها"...يعفى من العقاب كل من يبلغ عن جريمة غسل الأموال، قبل اكتشافها من الجهات المختصة"، ولم يتبع هذه الوسيلة في باقي جرائم الفساد، كما أنه لم يتناول ضمن نصوصه منح الحصانة ضد الملاحقة القضائية، لأي شخص يساعد على اكتشاف جرائم فساد وملاحقة مرتكبيها.

الفرع الثاني: المساعدة على نظر دعوى جرائم الفساد : يتطلب نظر دعوى جرائم الفساد ومكافحتها، ضرورة وضع تدابير وقوانين صارمة، تساعد في نجاح إجراءات التحقيق والملاحقة القضائية، مثل الحد من الحصانات الوظيفية التي تعوق الكشف عن جرائم الفساد، ووضع عقوبات تتلاءم وجسامة جرائم الفساد، إضافة إلى إقرار مدة طويلة للتقادم في جرائم الفساد.

أولاً: الحد من الحصانات الوظيفية : الحصانة نوعان: النوع الأول: ويطلق عليها بالحصانة الموضوعية، وهي تحييد النص الموضوعي، وإخراج الفعل من دائرة التجريم برفع وصف الجريمة عنه.

أما النوع الثاني: فهي الحصانة الإجرائية، وهي الحصانة التي تعطل النص الجنائي، فهي لا ترفع وصف الجريمة عن الفعل، إنما تعطي المتهم حماية في مواجهة سلطة الاتهام والتحقيق (أبو حمرة).

وتندرج الحصانة في فئتين رئيسيتين هما عدم المسؤولية والحرمة. ومن المفهوم الأول ينطبق على أعضاء الهيئات

التشريعية، فيما يتعلق بآرائهم وتصويتهم أثناء تأديتهم لمهامهم والغرض من هذه الحصانة هو ضمان استقلالهم، ولكنها مقصورة فقط على المسؤولية الجنائية.

أما النوع الثاني من الحصانة فهو الذي يمنح للموظفين العموميين أثناء تأدية وظيفتهم من اتخاذ الإجراءات القانونية ضدهم، مثل الملاحقة والاحتجاز،كما هو الحال في بعض الدول.

ولئن كان معظم الدول تنظر إلى الحصانة والامتيازات القضائية لكبار الموظفين، على أنها وسيلة للحفاظ على سير مؤسسات الدولة،إلا أن من شأنها أن تثير بعض الصعوبات إذ أنها تجعل الموظفين العموميين خارج متناول القانون، وقد قال البعض بأن هذه الحصانات تتعارض مع مبادئ القانون الجنائي وهو مساواة الجميع أمام القانون، وتحد من فعالية التحقيق والملاحقة القضائية.

الأمر الذي يستلزم معه الحد من هذه الحصانات، من أجل إرساء نظام ملاحقة جنائية فعال، وعدم ترك أي فرصة لإفلات مرتكبي جرائم الفساد من العقوبة.

وهذا ما دعت إليه اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد ضمن نصوصها، حيث تقضي المادة "30" فقرة "2" بأن تقوم كل دولة طرف، وفقاً لنظامها القانوني ومبادئها الدستورية، بإرساء أو إبقاء توازن مناسب بين أي حصانات أو امتيازات قضائية ممنوحة لموظفيها العموميين، من أجل أداء وظائفهم ومن أجل إمكانية القيام عند الضرورة بعمليات تحقيــــق وملاحقة ومقاضاة فعالة في الأفعال المجرمة وفقا لهذه الاتفاقية، ومن شأن شرعية الإستراتيجية العامة لمكافحة الفساد، والتصورات العامة للعدالة وسير عمل شركات الأعمال الخاصة والتعاون الدولي،أن تتعرض كلها لضرر شديد إذا استطاع الموظفون العموميون الفاسدون حماية أنفسهم من المساءلة والتحقيق أو الملاحقة على جرائم خطيرة، وتهدف الفقرة "2" من المادة"30" إلى القضاء على هذه الحالات أو منعها قدر الإمكان.

ولأن هناك مبررات للحماية الإجرائية التي يتمتع بها الموظفون من خلال منحهم تلك الحصانات، ينبغي أن تكون في أضيق نطاق ممكن، وفي حدود مقتضيات وظيفتهم، وما يلزم فقط لحمايتهم من الكيد لهم.

وقد نص المشرع الليبي على الحصانة بنوعيها الموضوعية والإجرائية، وأشترط لرفع هذه الحصانة ضرورة الحصول على إذن مسبق من السلطات المختصة بمنحه، والتي  يحددها  القانون، وقد حددت المادة "224" من ق.ع.ل على الجرائم التي لا يجوز فيها رفع الدعوى الجنائية إلا بناء على إذن من وزير العدل، وهذه الجرائم منصوص عليها في المواد (167-168-175-177-178-180-181-195-208) من قانون العقوبات الليبي.

كما نص قانون نظام القضاء في المادة "97" على الحصانة القضائية، والتي استلزم فيها ضرورة الحصول على إذن من اللجنة المنصوص عليها في المادة "96" من أجل القبض على عضو الهيئة القضائية أو حبسه.

كما نصت المادة "117" من قانون رقم 1 لسنة 2005م، بشأن المصارف على أنه: (لا يجوز رفع الدعوى الجنائية أو اتخاذ أي  إجراء من إجراءات التحقيق إلا بإذن من المحافظ وذلك في الجرائم التي ينسب ارتكابها إلى موظفي مصرف ليبيا المركزي فيما يتعلق بأداء مهام وظائفهم) ، وغيرها الكثير من المواد، إلا أنه وفي سبيل العمل على مكافحة جرائم الفساد، يجب على المشرع إلا يتوسع في إعطاء الحصانات، وأن تقتصر على تصرفات الموظف العمومي أثناء تأدية وظيفته، وهو ما ذهبت إليه بعض التشريعات، كالتشريع المصري الذي لم يتوسع في إعطاء الحصانة الممنوحة للموظفين عند تأديتهم وظائفهم ونص على ذلك في المادة (63_3) من قانون الإجراءات الجنائية.

ثانيا: العقوبات التي تتناسب وجسامة الجرم : إن جرائم الفساد تشهد تزايداً كبيراً في الآونة الأخيرة، ولا يخفى على أحد تأثيرها السلبي على جهود التنمية الاقتصادية والبشرية في العالم، فالفساد يلتهم ثروات الشعوب، ويعيق الاستثمار، من ذلك كله فإن التجريم وحده لهذه الجرائم لا يكفي، ما لم تكن العقوبات المقررة لها تتناسب وخطورتها، وجسامة الأضرار التي تحدثها.

وهذا ما نصت عليه الاتفاقية، وتناولته في المادة (30)، بحثها الدول الأطراف على ضرورة أن تراعي عند سنها لعقوبات جرائم الفساد "جسامة" ذلك الجرم، وتولي هذه المادة اهتماماً كبيراً للعقوبات ( العقوبات الجنائية بالمعنى الحرفي والعقوبات التبعية على السواء)، والعقوبات المتصلة بجسامة الجريمة أو المتصلة بطبيعة الجريمة، مثل: إسقاط الأهلية، وتقضي المادة في أحد فقراتها بما يلي:

  • أن تنص الدول الأطراف على عقوبات تراعي فيها "جسامة" ذلك الجرم (الفقرة 1)
  • أن تأخذ كل دولة طرف بعين الاعتبار جسامة الجرائم المعنية لدى النظر في إمكانية الإفراج المبكر أو المشروط عن الأشخاص المدانين بارتكاب تلك الجرائم (الفقرة 4).

لم تنص الاتفاقية هنا على شكل معين من العقوبات، بل تركت هذا للدول الأطراف، عند نصها على عقوبات جرائم الفساد، بأن تراعي جسامة الجرم، كما تؤكد على وجوب اتخاذ تدابير ملائمة لمراعاة درجة الجرم في العقوبات، ويكون إما بفرض غرامات أو السجن أو غير ذلك من الجزاءات.

كما لا يمكن تحديد جسامة الجرم بالاستناد إلى قيمة منفعة غير مستحقة فقط، ولكن بأخذ عوامل أخرى مهمة في الاعتبار، مثل: أقدمية الموظفين، ودرجة الأمانة المنوطة بالموظف العمومي، ومجال وقوع الأفعال المجرمة.

كما أن الاتفاقية لم تحدد درجة شدة العقوبات، بل أكدت على ضرورة أن تكون العقوبات المقررة لجرائم الفساد متسقة مع التقاليد القانونية الوطنية ووفقاً لإطار العقوبات العام الذي ينص عليه القانون الجنائي الوطني للدول الأطراف، كما ينبغي ألا تكون أدنى من عقوبات الجرائم الاقتصادية المماثلة،وأن تضع الدول في اعتبارها أن تكون طائفة العقوبات كافية بحيث تتيح تبادل المساعدة القانونية وتسليم المجرمين على نحو فعال، وقد يقتضي ذلك بالنسبة لبعض الدول أن تنص على عقوبة سجن طويلة المدة نوعاً ما لتكون متماشية مع مطالب مبدأ ازدواجية التجريم.

وعليه فقد وضحت الاتفاقية الملامح العامة للعقوبات في جرائم الفساد، ولم تضع عقوبات للجرائم،بل تركت ذلك لقوانين الدول الداخلية،إلا أنها نصت على بعض العقوبات التكميلية كالمصادرة، والتبعية كعقوبة إسقاط أهلية تولي منصب موظف عمومي في الدولة، الأمر الذي يحث تشريعات الدول أن تعيد النظر في قوانينها الخاصة بمكافحة الفساد، وأن تضع في الحسبان جسامة جرائم الفساد.   

أما المشرع الليبي وبالاطلاع على القوانين الخاصة بمحاربة بعض جرائم الفساد، نجده قد توسع في قوانين التجريم الخاصة بالفساد، في الوقت الذي نرى فيه ضرورة تعديل نصوصه القائمة، هذا من جهة، ومن جهة أخرى يجب عليه العمل على تحديث العقوبات في جرائم الفساد، ووضع عقوبات رادعة وتتناسب وجسامة الجرائم، والأخذ بمقتضيات التفريد العقابي، والتوسع أكثر في تقرير العقوبات المالية في حق مرتكبي جريمة الفساد.

 ثالثاً: إقرار مدة أطول للتقادم : يقصد بالتقادم: سقوط الحق بمضي فترة زمنية محددة من تاريخ نشأته، والتقادم نوعان:

الأول:هو تقادم العقوبة:ويقصد به مرور فترة زمنية محددة على صدور الحكم دون تنفيذه.

والثاني: هو تقادم الدعوى الجنائية:ويقصد به مرور فترة زمنية معينة من تاريخ ارتكاب الجريمة دون اتخاذ أي إجراء فيها(الدليل، 2013).

عليه فالتقادم الذي تنص عليه بعض التشريعات، قد يساعد الجاني على الإفلات من العقوبة، ومن الملاحقة الجنائية، ونظراً لأن معظم جرائم الفساد تتسم بالسرية، ولا تكتشف وقائع الفساد إلا بعد مضي مدة طويلة من حدوثها، مما قد يؤثر سلباً على التحقيق في هذه الجرائم من جمع  الأدلة وسماع الشهود، حرصت الإتفاقية على إطالة مدة التقادم لأطول فترة ممكنة تتمكن خلالها جهات إنفاذ القانون من التحري عن جرائم الفساد، وتقديم مرتكبيها للمحاكمة (سلامة، 1971).

وهذا ما تنبهت له الاتفاقية، فعملت على إقرار أحكام خاصة بالتقادم، تحد من إفلات الجناة من الملاحقة ومن العقوبة، فنصت في المادة (29) على أنه ((تحدد كل دولة طرف في إطار قانونها الداخلي، عند الاقتضاء، فترة تقادم طويلة تبدأ فيها الإجراءات القضائية بشأن أي فعل مجرم وفقاً لهذه الاتفاقية، وتحدد فترة تقادم أطول أو تعلق العمل بالتقادم في حال إفلات الجاني المزعوم من يد العدالة)).

فالهدف من وراء هذا الحكم هو تحقيق توازن بين المصالح المتمثلة في سرعة إقامة العدالة، وإنهاء القضايا من جهة وضمان الإنصاف للضحايا والمدعي عليهم من جهة أخرى، والإقرار بأن أفعال الفساد المجرمة يستغرق اكتشافها وتقريرها وقتا طويلاً، وفي القضايا الدولية هناك أيضا حاجة إلى مساعدة قانونية مشتركة بين الدول، مما قد يؤدي إلى مزيد من التأخر.

ويتمثل الغرض بصفة رئيسية حيثما توجد هذه القوانين في منع سلطات الملاحقة أو المدعين في القضايا المدنية عن التأخر في مباشرة الإجراءات من أجل مراعاة حقوق المدعي عليهم والمحافظة على المصلحة العمومية في إنهاء الموضوع، وسرعة إقامة العدالة، ذلك أن حالات التأخر الطويلة كثيراً ما يترتب عليها فقدان الأدلة وقصور الذاكرة، وحدوث تغييرات في القانون والسياق الاجتماعي، مما يزيد بالتالي من احتمالات حصول قدر من الظلم، بيد أنه يجب تحقيق توازن بين مختلف المصالح المتصارعة.

ويختلف طول مدة التقادم من دولة إلى أخرى، ويجب مع ذلك ألا تمر جرائم خطيرة دون عقاب، حتى وإن اقتضى الأمر فترات أطول لتقديم المجرمين إلى العدالة، خاصة مع حالات الفارين من وجه العدالة، حيث يكون التأخر في مباشرة الإجراءات القضائية خارجاً عن سيطرة السلطات، وقد يستغرق اكتشاف حالات الفساد وإثبات الوقائع وقتاً طويلاً (الدليل التشريعي).

لكل ذلك تلزم الاتفاقية الدول الأطراف التي لديها قوانين منظمة للتقادم،بتحديد مدة أطول للتقادم لجميع الأفعال المجرمة وفقا للاتفاقية،وتضيف خيار تعليق التقادم فيما يتعلق بالمجرمين الفارين من وجه العدالة.

أما المشرع الليبي فقد ميز بين نوعين من التقادم،وهما تقادم العقوبة،وتقادم الدعوى الجنائية،حيث تتقادم العقوبة ولا تتقادم الدعوى الجنائية، فجاء في المادة (120) من ق.ع.ل على أنه:"تسقط العقوبة المحكوم بها في جناية بمضي ثلاثين سنة، إلا عقوبة الإعدام فإنها تسقط بمضي ثلاثين سنة وتسقط العقوبة المحكوم بها في جنحة بمضي خمس سنين، وتسقط العقوبة المحكوم بها في مخالفة بمضي سنتين" ،كما نصت المادة الأولى من القانون رقم (11) لسنة 1427م، بشأن تقرير بعض الأحكام الخاصة بالدعاوى الجنائية وتعديل بعض أحكام قانوني العقوبات والإجراءات الجنائية، على أنه :" لا تسقط الجريمة ولا تنقضي الدعوى الجنائية بمضي المدة"(الرسمية).

نخلص من كل ذلك أن الإتفاقية أقرت مدد تقادم طويلة، أما المشرع الليبي فقد ذهب أبعد من ذلك بإلغائه للتقادم كسبب من أسباب انقضاء الدعوى الجنائية.

 

الخاتمة :

استهدفت ورقتنا دراسة أهم الوسائل والتدابير التي تساعد في الحد من إفلات الجناة من الملاحقة القضائية والعقوبة، التي جاءت بها اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد، ومدى مواءمة التشريع الليبي معها، وقد خلصنا لعدة نتائج، وتوصيات، نتناولها على النحو الآتي :

أولاً: النتائج :

  • نصت الاتفاقية على مجموعة من التدابير و الإجراءات التي تساعد في الحد من إفلات الجناة من الملاحقة والعقوبة، وعلى الدول إدراجها ضمن قوانينها الداخلية، كما يمكن للدول إدراج آليات أخرى لم تنص عليها الاتفاقية، لضمان أكثر حماية للمال العام.
  • تخلو معظم التشريعات الوطنية ومن بينها التشريع الليبي للأخذ بمعايير الولاية القضائية كافة، مما يتيح الفرصة للمتهمين في الإفلات من الملاحقة،  وقد تنبهت اتفاقية الأمم المتحدة لهذا العجز بنصها في المادة "40" منها على الأخذ بمعايير الولاية القضائية المختلفة.
  • الاتفاقية كانت أكثر توسعاً من حيث نطاق تطبيق مبدأ العينية، أما القانون الليبي فقد أخرج من قائمة الجرائم المنصوص عليها في المادة "5" من قانون العقوبات جرائم الفساد.
  • تبنت الاتفاقية مبدأ عالمية القانون الجنائي، أما المشرع الليبي فقد توافق مع الاتفاقية في الأخذ بالمعايير الثلاثة (مبدأ الإقليمية، ومبدأ الشخصية، ومبدأ العينية)، في حين خلت نصوصه من الأخذ بمبدأ العالمية، والشخصية الإيجابية.
  • دعت الاتفاقية الدول الى ادراج ثلاثة صور من المعاملة العقابية المخففة في تشريعاتهم الداخلية، بوضع تدابير تساعد في تشجيع كل من شارك أو يشارك في جريمة فساد، على مساعدة السلطات المختصة بالتحقيق والملاحقة، بتقديم معلومات مفيدة لهم تساعدهم في تتبع العائدات الإجرامية وحرمان الجناة من الاستفادة منها واستردادها، أما المشرع الليبي فقد نص على تخفيف العقوبة بشكل عام كلما وجد ظرف قضائياً وعذر قانوني مخفف، ولم ينص على تخفيف العقوبة على المتهمين الذين يقدمون العون للسلطات، إنما نص على الإعفاء من العقوبة إذا تعاون مرتكبوها على كشف الجريمة ومساعدة السلطات.
  • أولت الاتفاقية اهتماماً خاصاً لحماية الشهود والمبلغين، وإيجاد تدابير ونظام فعال لحمايتهم، وهذا ما يخلو منه المشرع الليبي ضمن نصوصه.
  • قضت الاتفاقية صراحةً بالخروج على مبدأ السرية المصرفية ووضع آليات لتذليل العقبات التي قد تنشأ عن تطبيق هذا المبدأ أمام السلطات المختصة في التحقيق وملاحقة جرائم الفساد، أما المشرع الليبي فقد خرج على مبدأ السرية المصرفية في حالات معينة نص عليها في قانون غسيل الأموال وقانون المصارف.
  • دعت اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد ضمن نصوصها، في المادة "30" فقرة "2" بأن تقوم كل دولة طرف، وفقاً لنظامها القانوني ومبادئها الدستورية، بإرساء أو إبقاء توازن مناسب بين أي حصانات أو امتيازات قضائية ممنوحة لموظفيها العموميين، من أجل أداء وظائفهم ومن أجل إمكانية القيام عند الضرورة بعمليات تحقيــــق وملاحقة ومقاضاة فعالة في الأفعال المجرمة وفقا لهذه الاتفاقية، وقد نص المشرع الليبي على الحصانة بنوعيها الموضوعية والإجرائية وأشترط لرفع هذه الحصانة ضرورة الحصول على إذن مسبق من السلطات المختصة بمنحه.
  • وضحت الاتفاقية الملامح العامة للعقوبات في جرائم الفساد، ولم تضع عقوبات للجرائم ، بل تركت ذلك لقوانين الدول الداخلية، إلا أنها نصت على بعض العقوبات التكميلية كالمصادرة، والتبعية كعقوبة إسقاط أهلية تولي منصب موظف عمومي في الدولة، الأمر الذي يحث تشريعات الدول أن تعيد النظر في قوانينها الخاصة بمكافحة الفساد، وأن تضع في الحسبان جسامة جرائم الفساد، أما المشرع الليبي نجده قد توسع في قوانين التجريم الخاصة بالفساد.

10- تلزم الاتفاقية الدول الأطراف التي لديها قوانين منظمة للتقادم، بتحديد مدة أطول للتقادم لجميع الأفعال المجرمة وفقاً للاتفاقية، وتضيف خيار تعليق التقادم فيما يتعلق بالمجرمين الفارين من وجه العدالة، غير أنها تعفي الدول الأطراف التي ليس لديها قوانين منظمة للتقادم وضع هذه القوانين، أما المشرع الليبي فقد ألغى التقادم نهائياً، ولم يعد سبب من أسباب انقضاء الدعوى الجنائية.

ثانياً: التوصيات :

من خلال ما استعرضناه في ورقتنا البحثية من نتائج، نخلص الى التوصيات الآتية:

  • ضرورة إعادة النظر في نصوص القانون الجنائي فيما يتعلق بتجريم أفعال الفساد، وإعادة النظر في الوسائل والتدابير و الإجراءات التي تساعد في الحد من إفلات الجناة من الملاحقة والعقوبة.
  • على المشرع الليبي أن يعمل على التوسيع في الولاية القضائية، وذلك بالأخذ بمعايير الولاية القضائية المختلفة، وتبني مبدأ عالمية القانون الجنائي، الذي يقوم على أساس التعاون القضائي، وملاحقة الجاني في الدولة التي يرتكب فيها جريمته بغض النظر عن جنسيته.
  • على المشرع الليبي أن يقوم بإدراج صور للمعاملة العقابية المخففة التي نصت عليها الاتفاقية ضمن نصوص قانون العقوبات لتشجيع المتهمين في الاشتراك بجرائم الفساد على مساعدة السلطات في التحقيق والملاحقة، و إيجاد تدابير وقوانين تخفف من عقوبة المبلغ عن جريمة فساد والذي يقدم عوناً للسلطات القضائية، باعتبارها كفالة لحقوق الإنسان، وتعزيز لنظام العدالة الجنائية.
  • على المشرع الليبي العمل على إيجاد تدابير ونظام فعال لحماية الشهود والمبلغين، لما لهم من أهمية ودور فعال في الكشف عن وقائع الفساد وملاحقة مرتكبيها.
  • على المشرع الليبي تعديل نصوصه القائمة، وإضافة ما يلزم من تدابير تحد من إفلات الجناة في جرائم الفساد، وعدم التوسع في إصدار قوانين خاصة لتجريم أفعال الفساد.
  • على المشرع الليبي أن يقوم بتحديث نظامه العقابي الخاص بجرائم الفساد، ووضع عقوبات رادعة ومتناسبة مع جسامة جرائم الفساد وخطورتها ،والأخذ بمقتضيات التفريد العقابي، والتوسع في تقرير العقوبات المالية في حق مرتكبي جرائم الفساد.
  • على المشرع أن يولي اهتماماً بالعقوبات التبعية، كإسقاط أهلية تولي منصب موظف عمومي، والعزل من الوظيفة، لما في هذه العقوبة من ردع للجاني وتطهير للأجهزة والمصالح الحكومية.

المراجــــع :

أولاً: الكتب :

1 - أبو خطوة، أحمد شوقي، (2007)، الأحكام العامة لقانون العقوبات، دار النهضة العربية للنشر، القاهرة، مصر.

2- محمد، كمال أنور، (1967)، تطبيق قانون العقوبات من حيث المكان، دار النهضة العربية، د ط.

3 - الرازقي، محمد، (1999)، محاضرات في القانون الجنائي، القسم العام، دار الكتاب الجديدة المتحدة، ط:2.

4 - سلامة، مأمون، (1971)، الإجراءات الجنائية في التشريع الليبي، مطبعة دار الكتب، ط1، بيروت، لبنان.

5- بارة، محمد رمضان، (2013)، الأحكام العامة للجريمة، القسم العام، د ط ، د ن.

6 - موسى، محمود سليمان، (2002)، شرح قانون العقوبات الليبي، القسم العام، منشأة المعارف، الإسكندرية، د ط.

7 - حسني، محمود نجيب، (1983)، شرح قانون العقوبات، القسم العام، دار النهضة العربية، ط 5.

8 - رحومه، موسى مسعود، (2004)، النظرية العامة للجريمة، القسم العام، منشورات جامعة قاريونس، ط:1، بنغازي، ليبيا.

ثانياً: المقالات والمحاضرات :

1 - أبوحمرة، الهادي، مقال بعنوان الحماية من القانون بالقانون، نموذج الحصانة الإجرائية، منشور على الموقع الإلكتروني  http//www.omanlegal.net/vd/showthread.php= 2837 

2 - دبارة، مصطفى، (2006)، محاضرات في مادة القانون الجنائي الدولي، لطلبة الدراسات العليا، غير منشورة.

ثالثاً: الوثائق والدوريات الرسمية :

1 – اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد، (uncac).

2 - مكتب مكافحة الجريمة، الدليل التشريعي لتنفيذ اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد، ط2 المنقحة،012 م.

3 - مكتب الأمم المتحدة، (2013)، الدليل التقني لاتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد، الأمم المتحدة نيويورك.

4 - مركز العقد الاجتماعي، (2014)، الدليل العربي لاتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد.

رابعاً: المجموعات الرسمية والقوانين :

1 _ مجموعة التشريعات الجنائية، قانون العقوبات،1953م.

2 – مجموعة التشريعات الجنائية ،الاجراءات الجنائية، أمانة العدل، 1968 م.

3 – الجريدة الرسمية،ع2، س36،(21،2،1428م).

4 _قانون رقم (1) لسنة 1373و.ر، 2005م، بشأن المصارف.

5 _ قانون رقم (2) لسنة 2005م، بشأن مكافحة غسل الأموال.

 

 

 

 

 

اتصل ألان